التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
استلم السلطان محمود الأول الحكم في ظروفٍ شديدةِ التوتر، وقد قسمت الفترة التي حكمها إلى ثلاث مراحل.
استلم السلطان محمود الأول الحكم في ظروفٍ شديدةِ التوتر، حيث برز المتمرد باترونا خليل كقائد فعلي للدولة، ومعه الطغمة التي قامت بالانقلاب العسكري، وكانت الأمور سريعة للغاية، ولم يستوعب حكام الولايات، أو كبار قادة الجيش، ما حدث.
كل هذا والتهديد الإيراني للحدود كبير، والمخاوف من غزو مرتقب لچورچيا وأرمينيا، أو حتى للأناضول نفسه. يمكن من أجل الدراسة الأكاديمية، وحسن الاستيعاب للفترة الطويلة التي حكمها هذا السلطان أن نقسِّم هذه الفترة إلى ثلاث مراحل متساوية زمنيًّا تقريبًا؛ المرحلة الأولى، وهي تسع سنوات، من 1730م إلى 1739م، وهي مرحلة صاخبة جدًّا، حاربت فيها الدولة العثمانية ثلاث دولٍ دون توقف؛ إيران، وروسيا، والنمسا، والمرحلة الثانية، وهي سبع سنوات، من 1739م إلى 1746م، وهي مرحلة هادئة نسبيًّا حاربت فيها الدولةُ العثمانيةُ إيرانَ فقط، والمرحلة الثالثة والأخيرة ثماني سنوات، من 1746م إلى 1754م، وكانت هادئة تمامًا، ولم تجرِ فيها حروبٌ مطلقًا. وفي هذه المقال سوف نتحدث عن المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة من حكم السلطان محمود الأول (1746-1754م)
هذه هي الفترة الأخيرة من حياة السلطان محمود الأول، وكانت -على المستوي الدولي- هادئة تمامًا لوجود اتفاقيات سلام حقيقية مع الأعداء الثلاثة الذين حاربوها في العقود الأخيرة؛ النمسا، وروسيا، وإيران. -أيضًا- أسهم في هذا الهدوء «الإجباري» انشغال هذه القوى الثلاث في صراعات دولية أخرى، أو في مشاكل داخلية كما مرَّ بنا في الفصل السابق. ومع ذلك فمن الأحداث المهمة في هذه الفترة نشأة الدولة الزندية في إيران، وهي وإن لم يكن لها معاملات مع الدولة العثمانية في هذه المرحلة إلا أن العلاقة ستتطور للصدام لاحقًا بعد عهد السلطان محمود الأول. أما على المستوى الداخلي في الدولة فيمكن الإشارة في هذه المرحلة إلى أمور ثلاثة؛ استقرار الحكومة، وقيام دولة المماليك في العراق، واستقلال ظاهر العمر بشمال فلسطين.
نشأة الدولة الزندية في إيران (1751-1794م)[1]:
تنتمي قبيلة الزند إلى فرع اللور من القبائل الكردية[2]، وكانت تعيش في إقليم لاكيستان Lakestan جنوب غرب إيران، ثم رحَّلهم نادر شاه في عهد الدولة الإفشارية إلى إقليم خراسان الشرقي[3]. بعد وفاة نادر شاه في عام 1747، وتقلص الدولة الإفشارية، انفصل الزنديون عنها بقيادة زعيم قبيلتهم كريم خان Karim Khan، الذي عاد بقبيلته إلى المناطق الغربية في إيران[4]. في عام 1751 أسس كريم خان الدولة الزندية واتَّخذ من شيراز عاصمة لها[5]. ما لبثت هذه الدولة أن توسَّعت في وسط وغرب إيران، وسيمتد حكمها لاحقًا إلى أذربيچان[6]. كان كريم خان من أكثر حكام إيران اعتدالًا في كل تاريخها، ولم يكن له عداءات مذهبية في معظم الأحوال، بل حاول التقريب بين السُّنَّة والشيعة في بلده، ولم يُعْطِ علماء الشيعة المكانة السياسية التي كانت لهم أيام الصفويين، وهي سياسة قريبة من تلك التي انتهجها سَلَفُه نادر شاه[7]، وعلى الرغم من اعتداله النسبي فإنه سيحمل راية العداء الإيراني المعتاد للدولة العثمانية، وسيكون بينه ويبنها بعض الصدامات حول العراق مستقبلًا.
استقرار الحكومة العثمانية:
استعاد الاقتصاد عافيته بعد توقف النزيف العسكري، وكانت العلاقات التجارية مع أوروبا نافعةً للدولة. هذا التحسُّن الاقتصادي والعسكري أدَّى إلى استقرار الحكومة في إسطنبول بشكل خاص، وفي الدولة بشكل عام[8]. أسهم -أيضًا- في هذا الاستقرار كثرة تغيير السلطان للصدور العظام، والوزراء، وحكام الولايات، لئلا تترسخ سلطة أحدهم في مكان ما، فيخرج بعلاقاته المتوطدة عن السيطرة. لقد قمتُ -على سبيل المثال- بإحصاء عدد الصدور العظام في خلال السنوات الأربعة والعشرين التي حكمها السلطان محمود الأول فوجدتُهم ستَّة عشر صدرًا أعظم! هذا يعني أن متوسط ولاية الصدر الأعظم الواحد سنة ونصف فقط. هذا له مردود سلبي من ناحية أنه لا يستطيع أن يضع خطة طويلة الأمد يحقق بها النجاح، وقد يهدم الصدر الأعظم الجديد ما بدأه سلفُه، ولكن من ناحية أخرى لا يستطيع صدر أعظم أن ينفرد بالسلطة أو بالقرار، وتظل سلطة السلطان هي الأعلى. -أيضًا- كان السلطان لا يهمل الكفاءات الكبرى، على الرغم من حرصه على عدم بقائها في المنصب نفسه فترة طويلة، فكان ينقله من مكان على آخر، ويعزله من الصدارة العظمى ليضعه في البحرية مثلًا، أو يأتي به من حكم ولايةٍ إلى قيادة جيش، وهكذا. كمثال على هذا التنقل للشخصيات المميزة يمكن الاطلاع على جانبٍ من سيرة حكيم أوغلو باشا. لقد تقلَّد هذا الرجل منصب الصدارة العظمى مرتين في حياة السلطان محمود الأول[9]، ومرة بعد ذلك في عهد السلطان اللاحق (عثمان الثالث)[10]، وبين هذه الفترات تقلَّد مناصب أخرى كثيرة، كان منها على سبيل المثال ولاية مصر[11]، و-أيضًا- البوسنة[12]، كما تقلَّد قيادة جيش الأناضول[13]. هذه مجرد أمثلة للمناصب التي تقلَّدها هذا الرجل المتمكن، وإلا فهي أكثر من أن نتتبعها في هذه الجزئية من الكتاب! وحكيم أوغلو نفسه مجرد مثال، فهو ليس حالة نادرة، وأشباهه كثير، وبهذا التغيير المطرد ظل السلطانُ سلطانًا!
قيام دولة مماليك العراق (1749-1831):
تعود أصول مماليك العراق غالبًا إلى چورچيا[14]، ولا علاقة لهم بمماليك مصر والشام، وكان أول من جلبهم للعراق الوالي العثماني حسن باشا (1704-1723)، ثم ابنه أحمد باشا (1723-1747)، اللذان أرادا بناء قوة عسكرية بديلة عن الإنكشارية. قويت شوكة هؤلاء المماليك جدًّا في عهد أحمد باشا، وبعد موته صارت الأمور في أيديهم بشكل غير رسمي لمدة عامين، ثم انقلبوا عسكريًّا بشكل مباشر على مبعوث السلطان العثماني، وذلك في عام 1749[15]. تقلُد زعيم المماليك سليمان أبو ليلة باشا، الذي كان واليًا على البصرة، مقاليد الحكم في الإقليم كله[16]، وصار العراق بذلك شبه مستقل عن الدولة العثمانية، وسيستمر هذا الوضع لمدَّة اثنتين وثمانين سنة (إلى 1831)[17]. كان مماليك العراق يهتمون بإرسال مبعوث إلى السلطان ليأخذوا تصديقه على تعيين المملوك الجديد على العراق، ولذلك لا يزال العراق -ظاهريًّا- داخلًا في حدود الدولة العثمانية، وإن كانت قرارته تؤخذ بانفرادية كاملة عن الحكومة العثمانية[18].
استقلال ظاهر العمر بشمال فلسطين:
كان ظاهر العمر، وهو من قبيلة الزيداني العربية بفلسطين[19]، يعمل «مُلْتَزِمًا» لمنطقة طبرية بشمال فلسطين في فترة الثلاثينيات من القرن الثامن عشر خلفًا لوالده عمر الزيداني[20]. والمـُلْتَزِم هو من يدفع إلى الدولة العثمانية الخراج والضرائب عن المنطقة ثم يتولى هو جمعها بمعرفته من أهلها، كما أنه يمد الدولة بالجنود عند الحاجة[21]. اتسع سلطان ظاهر العمر، وأدرك ضعف قبضة الدولة على المناطق التي يعيش فيها، فأغراه ذلك بالاستقلال بها عن العثمانيين. في خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الثامن عشر (أثناء عهد السلطان محمود الأول) استقل ظاهر العمر بشمال فلسطين كله[22]، ولم يكتفِ بطبرية؛ إنما ضم إليها الجليل، والناصرة، ودير حنا، ثم عكا في عام 1746[23]. لم يتمكن ولاة الدولة العثمانية في دمشق وصيدا من إزالة حكمه ولا تقليصه[24]. سيتسع ملكه أكثر من ذلك، وسيكون إحدى العقبات المهمة أمام الدولة العثمانية.
موت السلطان محمود الأول (1754):
على الرغم من الاضطرابات التي حدثت في فلسطين والعراق كانت السنوات الثمانية الأخيرة في عهد محمود الأول هادئة، وهكذا، بقدر التعب الذي عاناه السلطان في ثلث عهده الأول كانت الراحة في هذا الثلث الأخير، وهذا ما حافظ على «ثبات» الدولة. توفي السلطان محمود الأول في 13 ديسمبر عام 1754[25]، وهو في الثامنة والخمسين من عمره[26]، ليصعد إلى العرش وليُّ عهده، وأخوه، الأمير عثمان بن السلطان مصطفى الثاني[27].[28].
[1] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976, vol. 1, p. 254.
[2] إقبال، عباس: تاريخ إيران بعد الإسلام من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية، راجعه: السباعي محمد السباعي، نقله عن الفارسية وقدم له وعلق عليه: محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989م.صفحة 726.
[3] Syed, Muzaffar Husain; Akhtar, Syed Saud & Usmani, Babuddin: A Concise History of Islam, Vij Books India Pvt Ltd, New Delhi, India, 2011.., 2011, p. 214.
[4] ولبر، دونالد: إيران ماضيها وحاضرها، ترجمة: عبد النعيم محمد حسنين، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الثانية، 1405هـ=1985م.صفحة 96.
[5] إقبال، 1989 صفحة 730.
[6] Syed, et al., 2011, p. 215.
[7] Perry, 1991, vol. 7, p. 97.
[8] مانتران، 1993 صفحة 1/426.
[9] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول 1/608، 609.
[10] Goodwin, Godfrey: The Janissaries, Saqi Books, London, UK, 2013., p. 196.
[11] الجبرتي، عبد الرحمن بن حسن: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، (دون سنة طبع). الصفحات 1/227، 279.
[12] Shapira, 2011, pp. 136-137.
[13] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، 1895 صفحة 1/622.
[14] كيلي، جون . ب: بريطانيا والخليج 1795 – 1870، ترجمة: محمد أمين عبد الله، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط–سلطنة عمان، (دون سنة طبع). صفحة 1/59.
[15] الوردي، علي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، دار الوراق للنشر، 2007م. الصفحات 1/154-157.
[16] لونگريك، ستيفن هيمسلي: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، مكتبة اليقظة العربية، الطبعة السادسة، 1985م.صفحة 202.
[17] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 91.
[18] Tucker, 2019, vol. 1, p. 342.
[19] Harris, William: Lebanon: A History, 600-2011, Oxford University Press, New York, USA, 2012., p. 114.
[20] الصباغ، عبود: الروض الزاهر في تاريخ ظاهر، تحقيق: محمد عبد الكريم محافظة، عصام مصطفى هزايمة، دار الكلندي للنشر والتوزيع، اربد-الأردن، الطبعة الأولى، 1999م (ب).الصفحات 22-24.
[21] Nizri, Michael: Defining Village Boundaries at the Time of the Introduction of the Malikane System: The Struggle of the Ottoman State for Reaffirming Ownership of the Land, In: Saraçoğlu, M. Safa; Zens, Robert W. & Schull, Kent F.: Law and Legality in the Ottoman Empire and Republic of Turkey, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2016., pp. 51-52.
[22] أوبنهايم، ماكس فرايهير فون؛ وكاسكل، ورنر؛ وبرونيلش، آرش: البدو، تحقيق وتقديم: ماجد شبر، ترجمة: محمود كبيبو، شركة دار الوراق للنشر المحدودة، لندن، الطبعة الثانية، 2007م، 2007 صفحة 2/28.
[23] Philippides, Marios & Hanak, Walter K.: The Siege and the Fall of Constantinople in 1453: Historiography, Topography, and Military Studies, Ashgate Publishing, UK, 2011., pp. 32-36.
[24] الصباغ، مخائيل نقولا: تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني: حاكم عكا وبلاد صفد، عني بنشره وتعليق حواشيه: الخوري قسطنطين الباشا المخلصي، شركة نوابغ الفكر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431هـ=2010م. الصفحات 51–55.
[25] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008 صفحة 354.
[26] أوزتونا، 1988 صفحة 1/609.
[27] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. صفحة 225.
[28] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 831-830.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك